الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

وأثمرت البذور - الجزء الأول

استقيظ أحمد في ساعة مبكرة من صباح يوم

السبت لإنجاز معاملة لشقيقه الأصغر في وزارة

التربية, وكان على يقين من ان معاملته ستنتهي بمجرد أن يصل
 
الى صديقه سعود في تلك الوزارة, ولذلك رتب معه موعدآ في هذا
 
الصباح..أحمد خريج جامعة الكويت من قبل عشر سنوات مضت,
 
وهو مدير ادارة في احدى الوزارات وله معارف كثيرون و وتقريبا كل معاملاته منجزة في دوائر الحكومة..


نزل أحمد من سيارتة عند الباب الرئيسي لوزارة التربية, ورحب بة
 
عامل المصعد لحظة دخوله, ومن ثم أبلغ العامل برغبته في الصعود
 
 الى الدور الثالث, وفي لحظات كان في الدور الثالث المنشود..

جلس على كرسي وثير في مكتب المسؤول , وبعد تبادل التحيات والسؤال عن الصحة و الأولاد دخل رجل كبير السن متجعد الوجه ابيض منه الشعر وتقوس الظهر, ومن كلامه مع المسؤول عرف انة جاء ليشكو ظلما وقع علية.

ويتفرس أحمد في ذلك الوجه الذي تأكد من انة لابد رآه في يوم من الأيام. الوجه قريب جدا الى نفس احمد, بل هو من النوع المألوف في حياتة, ولكن أين؟ ومتى قابل هذا الرجل العجوز؟ لا يستطيع التذكر!..وفجأة نطق صديقة المسؤول: استاذ عبدالرؤوف انني مقدر وضعك,ولكن القانون...قانون..

وفي لمح البصر حركت كلمات المسؤول وذكريات أحمد, ونفضت عن اوراق الذاكرة الغبار وما علق بها من رواسب الحياة..و أزاحت كلمة ((عبدالرؤوف)) الرماد عن نار الذكرى..


عبدالرؤوف...عبدالرؤوف...كم من السنوات مضت على ذكرى هذا الرجل؟ عشر؟ عشرون سنة كاملة؟ بل أكثر. و أخذ شريط الذكريات يلح في رأس أحمد بلا توقف..ماذا يرى في الشريط؟ ثانوية الأصمعي..طلاب من كل الأعمار..شلة احمد كما يسمونها..عبداللطيف واسماعيل ومحمد ويعقوب وغيرهم كثير زملاء فصله

مشرف الجناح بسمار وجهه المحبوب الأستاذ بدر والاستاذ عبدالكريم..وطابور الصباح..وكلمة ناظر المدرسة الاستاذ جاسم..ومرشد الصف الاستاذ عبدالرؤوف اللذي يصرخ في الفصل الواقف في الطابور, وكان احمد يقف في المقدمة كمراقب للفصل..

_أنتبة انت وهوه للسيد الناظر..أما طلبة آخر زمن..
وينفجر الصف بالضحك..فلقد كان الطلبة ينتظرون اي كلمة من الاستاذ عبدالرؤوف حتى يضحكوا عليها ليقينهم ان هذه الحركات تزعجة كثيرا..وهكذا يجر عليهم لعناته وعلى عوائلهم..

 

ولكن قطعا هذا ماكانوا يقصدونة وهو ان يشتمهم الاستاذ عبدالرؤوف حتى يضحكوا من شتائمه, فهو لا يفتأ يسب نفسة في النهاية ويسب والده ووالدته اللذين أصرا على أن يدخل الأزهر حتى يكون معلما ليفاخرا به معارفهما والجيران, لذلك هو الآن يدفع ثمن التفاخر العقيم..
 
وكثيرا ماقضى الاستاذ عبدالرؤوف ربع الحصة في كتابة موضوع الدرس ومسح الصبورة التي يتعمد طلبة الفصل ان يتركوها غير نظيفة حتى تضيع الحصة..وبعد الانتهاء من كتابة عنوان الموضوع على الصبورة يستدير ناحية الطلبة وهو ينفض ما علق من مسحوق الطباشير على بدلتة الوحيدة التي يلبسها طيلة السنة الدراسية..وكان احمد يتعجبو وتشاركة شلتة في نفس الشعور, اذ كيف يتسنى للأستاذ عبدالرؤوف غسل بدلتة لتبدو نظيفة؟ ومتى تنشف؟ فهو كل يوم يحضر بها..

وتذكر احمد شيئا آخر..الاستاذ عبدالرؤوف يتكىء عليها ويقول: اليوم سنتكلم عن ((النكرة والمعرفة)).. ويضج الفصل من الضحك على حركة عيني الاستاذ عبدالرؤوف..فهو يتكلم بجميع جسمة,فما ان ينطق بكلمة واحدة حتى تتحرك يداه ورأسه..وعيناه تغلقان بسرعة..ثم يغلق اليمنى ويفتح اليسرى..ثم يرقص حواجبة مرة واحدة..كل ذلك يحدث في اقل من ثانية, ولاشك انها عادة لم يستطع التخلص منها..

وعلا صوت احد الطلبة يسأل: أستاذ...أنت معرفة أم نكرة؟؟


قال الأستاذ عبدالرؤوف وجسمة يتحرك بأكمله: أنا معرفة..وسيبويه معرفة,ومحمد عبده وجمال عبدالناصر معرفة, لأننا لنا شأن في المجتمع..لكن أنت وأبوك وعائلتك وكل من ينتسب لك نكرة!..وضج الصف كلة بالضحك, وكانوا يسألون انفسهم لماذا لا يغضبون عندما يشتمهم الاستاذ عبدالرؤوف, وكيف يسمحون له بما لم يسمحوا بة لبقية المدرسين؟ وكانوا لا يجدون جوابا لتساؤلاتهم فيزدادون ضحكا

 

لاشك ان الاستاذ عبدالرؤوف نوع فريد من
المدرسين, فهو يجمع بين النقمة على المجتمع
وبين حبه لتلامذته حتى انه اذا غاب أحدهم
يظل يسال عنة, حتى اذا حضر ذلك الغائب
قابله بالسب والشتيمة لدرجة ان الطالب
لايصدق أصحابه الذين قالوا ان الاستاذ
عبدالرؤوف يتحرى أخباره, وأنه كان مشغولا علية..ويأخذ يلوم أصحابة لأنهم أفهموه غير
الحقيقة, ولكنهم يحلفون له وهم متعجبون مثله لسلوك الاستاذ عبدالرؤوف , وهم لايصدقون
أن هذا الاستاذ الحنون العطوف على من يغيب منهم, هو نفس الاستاذ الناقم الزاجر لنفس
الطالب الذي كان يسأل عنة, وحتى على تلك النتيجة يضحكون

وكان عبدالرؤوف هذا بخيلا على نفسة فقط فهو لا يغير بدلته..بل كان بخيلا ايضا على زوجتة التي في بلدته في محافظة سوهاج التي لم تحضر معة , فهو لايبعث لها الا القليل  

القليل:.ولكنة كان يفاجيء تلاميذه بأن يشتري لأحدهم جلاد كراسة اذا اصر احد الطلبة على عدم الشراء, ويزداد استغرابهم لسلوك الاستاذ عبدالرؤوف ولهذة التصرفات التي لاتزيدهم الا ضحكا..وهو غير منظم أبدا..فيخبرهم أنة في غرفتة الوحيدة لا يعرف أين يضع حاجياته من شدة اضطرابها, فالكراسات على السرير, وبقية من طعام,ودولاب الملابس خاوي, وملابسه إما على الأرض أو معلقة على الحائط..وهو يدرسهم مادتي التربية الاسلامية واللغة العربية ولكنة لايتقيد بجدول الحصص, فلا يحول الجدول دون ان ينتقل من الحديث الشريف الى درس النحو..ومن درس النحو الى الفقة الاسلامي..هكذا هو خلق منذ كان, وبرغم كل سيئاتة فهم يحبونة, وكلما اكتشفوا شيئا جديدا في استاذهم ازدادوا ضحكا وحبا له..

يحب الخير لتلاميذة ويدعو لهم.. وما أن ينتبه الى انة اخذ يدعو لهم حتى تعاوده نقمتة على التعليم ورجال التعليم وطلبة العلم فيصرخ بأعلى صوته
 
"هذة ذقني إذا أفلح واحد فيكم كلكم تتخرجون الى السجون بإذن الله.. اعرفكم من وجوهكم.. !!

ويضج الصف بالضحك كعادتهم عندما ينتهي من شتائمه..


ويظل الاستاذ عبدالرؤوف يوزع شتائمة حتى تصل الى صاحب العمارة التي يسكن فيها في حولي وكيف انة يطالبه برفع الاجر شهرا بعد شهر.. وعندما يقول له أحد الطلبة:
 
أستاذ
 

مارأيك أن تسكن عندنا بالمجان..بشرط أن أنجح في مادة التربية الاسلامية واللغة العربية؟

 

يقول الاستاذ عبدالرؤوف وهو يصوب عينية نحو صاحب الاقتراح:
 
الله يعمر بيتك يابني وان شاء الله يسكن معاك الشياطين ويلحسوا عقلك اكتر ماهو ملحوس"!



ويضج الصف الصف بالضحك اللذي ينقطع بمجرد ان يرفع الاستاذ عبدالرؤوف يدة .. كما والاستاذ متسامح معهم لانة يحبهم ولو انه لايظهر ذلك الحب الا في مرات نادرة...



حصل مع احمد عندما امتدحة وأخذ يمسح على راسه عندما زارهم الموجه, وكان الاستاذ عبدالرؤوف يقول له: لقد طولت رقبتي يا أحمد, وبمجرد ان خرج احمد بهذا الاطراء اذ بالاستاذ عبدالرؤوف يفاجئة بقولة:
 
 ولكنك مثل البقية يا أحمد سوف تتخرج على السجن طوالي.. !!
 
وفجأة انتقل الاستاذ عبدالرؤوف الى ثانوية اخرى, وعلم الطلبة ان سبب نقله هو رفضه ان ينافق المدرس الاول..وحزنوا علية حزنا شديدا واتفقوا جميعا على انة مثال المدرس المحب لتلامذتة وانة نقي,يستمد ذلك النقاء من فطرتة الريفية,وانقطعت اخباره عنهم, وشغلتهم الدنيا عن السؤال عنة, الى ان رآه احمد هذا اليوم. ولم ينتبة الا على زميلة المسؤول وهو يصرخ:
 
 استاذ عبدالرؤوف..حقك بالخدمة اخذتة بلا زيادة او نقصان


ورد الاستاذ عبدالرؤوف خدمة خمسة وعشرين سنة..وهذا حقي فقط؟ ليه... لو كنت اعمل فراشا لكانت مكافأتي اكثر..الله يرحمك يا والدي ما قلت لك بلاش الشغلانة دي..

ضحك احمد في سره وقال: للآن ناقم على والديك استاذي؟


نهض احمد ودنا من الاستاذ عبدالرؤوف......
 
يـــتــــــبــــــــع

10 التعليقات:

كريمة سندي يقول...

تشرفت وسعدت بالتعرف عليك عزيزتي .. وفي انتظار البقية الباقية .. حوار واقعي ومثي للجدل دمتم بخير

m.hallawa يقول...

صباحك روز وياسمين

شكرا علي الزيارة الكريمة وتعليقك الراقي

مدونتك لذيذة ولكن تريد عمل كثير لوحبيتي اساعدك معنديش مانع
وتعاونوا علي البر والتقوي !!!

تحياتي واحترامي
متشرف بمعرفتك

غـَنـج يقول...

كريمة سندي

الشرف لي استاذة بمرورك العطر ومعرفتك الثمينة

اسعدتيني الله يسعدك .. والبقيه بإذن الله قريبا

ودمتي بألف خير

غـَنـج يقول...

m.hallawa

صباحك نقي زي قلبك ,, ياهلا وسهلا انست وشرفت ياستاذ

بالعكس انا اللي باشكرك نورتني

وتحت امرك قولي اية شايفة ناقص او محتاج عمل ؟؟

momken يقول...

....

جميل ونتابع
تسلم ايدك

تحياتى

...

ibnalsor يقول...

ماشاء الله تبارك الرحمن
قلم جميل وساخر من النوع الثقيل
و .. الخفيف ايضا ..
فهو مثل الاستاذ عبدالرؤف يلسع
لكن لسعته تعلّم ولها هدف
مثل ماقالت الكاتبة الفاضلة كريمة سندي
سعيد جدا بوصولي الى هنا


علي موسى يقول...

شوقتينا لكمال القصة خاصة ولها عبق من التاريخ...اكرر شرفي بالمتابعة موفقين

غـَنـج يقول...

momken

الاجمل تواجدك ومرورك

نورت

غـَنـج يقول...

ابن السور الكويت

والله انا اللي يسعدني تواجدك ومرورك الكريم

عطرت المدونة بسطر قلمك وجمال اسمك وريحة ديرتي

تشرفت بمعرفتك جدا

غـَنـج يقول...

علي موسى

الشرف لي استاذ علي .. وسعيدة انها نالت اعجابك
وبإذن الله اليوم راح اضع الجزء الثاني والاخير :)

إرسال تعليق